شريف الأسواني يكتب .. نجيب محفوظ.. رواية مصر الكبرى التي لا تنتهي

في كل عام، ومع ذكرى رحيل نجيب محفوظ، لا أجد نفسي واقفًا أمام اسمٍ نال جائزة نوبل فحسب، بل أمام رجلٍ حمل مصر كلها في قلبه، وجعل من الحارة الشعبية كتابًا مفتوحًا، ومن الأزقة الضيقة أفقًا واسعًا يطل على العالم..
لم يكن الاستاذ نجيب محفوظ ابن حارته وحدها، بل ابن ثورةٍ بكاملها. ثورة 1919 التي تركت في وجدانه جمرتها الحية، فكبر وهو يسمع هتافاتها تتردد في البيوت والشوارع، حتى صار هو نفسه صدىً لها في كتاباته. وفي وعيه كان امتدادًا طبيعيًا لذلك التيار الذي بدأ مع رفاعة الطهطاوي، ومرَّ بجمال الدين الأفغاني،
ومحمد عبده، وطه حسين.
لكنه لم يكرر أحدًا، بل أعاد صياغة الحلم بطريقته الخاصة بالرواية، الفن الذي وجد فيه أرضًا وسطى بين العقل والقلب،
بين الفلسفة والواقع، بين الفكرة والحلم.
في الحارة اكتشف محفوظ الإنسان بحزنه وفرحه، بخوفه ورغبته. وفي الفلسفة اكتشف السؤال، ذاك السؤال الذي لا يهدأ
لماذا نحن هنا؟ وإلى أين نسير؟ من هذا التزاوج العجيب ولدت أعماله، أعمال لا تعيش في الكتب وحدها، بل في وجدان كل من قرأها أو شاهدها على شاشة السينما.
«الأدب العظيم ليس كلماتٍ على ورق، بل هو حياة كاملة، حياة أمة تبحث عن نفسها وتجدها في مرآة الإبداع.»
كان محفوظ يعرف أن الأدب ليس زينة ولا ترفًا. كان يؤمن أن الكلمة يمكن أن تحمل هموم الناس كما تحمل أحلامهم، وأن الرواية تستطيع أن تكون مرايا لأمة تبحث عن صورتها.
لذلك كتب عن السياسة دون أن يكون سياسيًا، وغاص في الفلسفة دون أن يتحول إلى فيلسوفٍ جامد، وترك لنا أدبًا يضج بالحياة، حتى وهو يحاور أعمق أسئلة الوجود.
وهكذا عاش نجيب محفوظ رجلًا بين الحارة والفلسفة، بين الواقع والحلم، بين السياسة والفن. وحين رحل، لم يرحل اسمه ولا أثره،
بل ترك لنا روحًا متجددة تهمس لنا في كل قراءة الأدب العظيم ليس كلماتٍ على ورق، بل هو حياة كاملة، حياة أمة تبحث عن نفسها، وتجدها في مرآة الإبداع.
وأنا، كابن حارة مصرية في حي عين شمس، كلما عدت إلى قراءة محفوظ شعرت أنني أستعيد ملامح وجوه أعرفها، وأصوات شوارع عشتها، وأن هذا الرجل كتب عني قبل أن أولد،
وكتب عن حارتي قبل أن أتعلم كيف أصفها.
محفوظ لم يكن أديبًا عالميًا فحسب، بل كان جارًا أبديًا لكل مصري عاش في الحارة، وظلّ يحملها في قلبه أينما ذهب.
رحم الله الاستاذ نجيب محفوظ إبن مصر



